الأحد، 4 نوفمبر 2012

الديمقراطية بين السياسة والأخلاق


الديمقراطية بين السياسة والأخلاق

الديمقراطية بين السياسة والأخلاق

دون رادع أخلاقي، يتحول العمل السياسي غالبا إلى مجابهة للوصول إلى السلطة، إما طمعا بها وإما لغايات فردية أو فئوية. الرادع الأخلاقي العقلاني المستند على قيم كالعدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان يرسم طريقا واضحا للسياسي ليكون عمله منسجما مع مصلحة المواطنين. الأخلاق في السياسة هي الرابطة بين الحاكم والمحكوم. هو"عقد اجتماعي" يستند إلى قيم مشتركة ملزمة للأطراف. التصرف غير الأخلاقي للسياسي، في عدم احترام حقوق المواطنين واستغلال منصبه لغايات شخصية، يفصم العلاقة بينه وبين المواطنين ويضعه في موقع اللاشرعية واللامصداقية. بهذا يصبح التفويض الديمقراطي غير معقول،  في حالة تناقض. لا أحد يفوض أحدا للعمل ضد مصلحته. إن عمل السياسي لصالح المواطنين تبعا للدستور المؤسس على مفاهيم العدل والمساواة والمساءلة هو الشيء المعقول والأخلاقي لضرورية العيش في دولة ديمقراطية. لقد انتخب الشعب ممثلين عنه لتنفيذ سياسات عادلة لخير الجميع. فالديمقراطية من حيث أنها آلية حقوقية لحكم الشعب، عن طريق ممثلين عنه، لها علاقة بالقيم الأخلاقية المتعلقة بالتمثيل والعمل السياسي.

الأخلاق هي حجر الزاوية في بناء ديمقراطية قوية وفعّالة. يمكن تلخيصها بالنسبة للسياسي بالنقاط التالية:

·        قبول المسؤولية في حال المقدرة
·        الاعتراف بالمساواة  بين المواطنين والانفتاح على كافة فئات الشعب
·        الإخلاص  لمبادئ ووعود الحملة الانتخابية  المستندة على العدالة وحقوق الإنسان  وباقي الشرائع الدولية
·        دعم العدالة الاجتماعية
·        إدارة الشؤون العامة إدارة عقلانية دون استعمال السلطة لغايات شخصية أو فئوية
·        قبول الاعتراف بالخطأ وإفساح المجال للنقد والمساءلة والشفافية
·        العمل لسلام ورفاهية المواطنين
·        المساهمة الفعّالة لحسن الجوار والسلام دون التضحية بالمصالح الوطنية والقومية والتعاون والتضامن مع الدول الأخرى لخلق عالم أكثرانفتاحا ومساواة بين الأمم.
على المواطنين بدورهم واجب أخلاقي تجاه السياسي المنتخب ديمقراطيا. عليهم احترامه ومساعدته عند المقدرة  لأداء واجباته. حكم الشعب يستند  هو أيضا على قيم  لسلوك أخلاقي متحضّر، مثل التقيّد بالقوانين والعمل تبعا للعدل والمساواة في حدود جماعته السياسية وبقية  الجماعات السياسية الأخرى. بين الأغلبية  التي ستحكم وبين الأقليات المتعددة  المعارضة.

الرادع الأخلاقي يبقى في حدود المبادرة  الفردية، من الضروري تشجيعه وتنميته بشكل متواصل بالتربية والمثل الصالح . لكن  من السذاجة  تصور احترام  القوانين  والسلوك المهني "الاخلاقي" من قبل كل السياسيين والمسؤولين عن الشؤون العامة ، بشكل اختياري وبعيدا عن المراقبة والمساءلة. يجب وضع قوانين ملزمة للتقيد بهذه  الواجبات "الأخلاقية-السياسية" لحسن سير مؤسسات الدولة  لخدمة المواطنين. علم الواجبات هذا ليس لائحة ثابتة ودائمة . بل هي لوائح تحتاج الى تعديلات متلاحقة  تتأقلم مع تطور المجتمع  ومؤسساته الاجتماعية والسياسية.

في ديمقراطيات اليوم، من الصعب الحصول على أغلبية مطلقة في الانتخابات  (50%+1) من عدد المواطنين الذين يحق لهم التصويت ، بسبب تعدد الأحزاب وخاصة في الدول ذات الديمقراطيات الحديثة. حتى في الديمقراطيات العريقة، هناك تجاوز ظاهر لثنائية الأحزاب، ذلك يعود إلى تنوع أكبر في الرؤية  السياسية للمواطنين وتعدد الجمعيات المدنية التي تحاول التأثير على سياسة الدولة  بخلق أحزاب سياسية جديدة  وصغيرة  مثل الاحزاب التي تدافع عن البيئة مثلا.  تعدد الاحزاب السياسية في الدولة يضعف من شرعية الحكومة المنتخبة لأن "أغلبيتها " أغلبية نسبية، اقترانا  بعدد المواطنين. لذا فالرادع الأخلاقي والتقيّد  بالقوانين حيوي وضروري لكي لا يتحول "حكم الحزب الحاكم" المنتخب  إلى ديكتاتورية رافضة للاستماع إلى بقية المواطنين ذات الأغلبية العددية.  

متى يتحول الدين إلى مخدر للشعوب

·        عندما نضع العقل بين قوسين ليصبح فقط أداة لتبرير أقوال رجال الدين وأعوانهم من العقائديين الذين يقحمون الدين في السياسة للسيطرة على الحكم والتحكم بالناس وتسييرهم حسب عقليتهم.
·        عندما يُؤخذ الدين كحل لكل المشاكل الإنسانية وحتى العلمية، مناقضا بذلك واقع الأمور. لأن حلول المشاكل المتنوعة من اجتماعية إلى سياسية وعلمية... لا وجود لها في الماضي، ليست منزلة وجاهزة. الحلول تستنبط بالتفكير المنهجي الجاد، وبالعلم وبالتجارب المتواصلة. هذه الحلول رغم التطور،تبقى  في كثير من المجالات، تقريبية يمكن إعادة صياغتها وتركيبها وإجراء أبحاث جديدة. تفكيرنا يتطور ومادة التفكير تتحول والظواهر تتعدل بحيث لا يمكن التكهن سلفا بما سيأتي.
·        عندما تدخل روح الإتكالية في عقول الناس: الاتكال على رجال الدين  وعلى الحركات الدينية . هؤلاء القيمون على الدين، الذين "يعلمون" ما يجب اعتقاده وعمله في هذه الدنيا  للوصول الى الحياة الآخرة! وبما أن الدين  كما يدّعون يجب أن يتدخل في كل مرافق الحياة فعليهم واجب إرشاد المؤمنين في الحياة العائلية والاجتماعية وحتى السياسية، وخاصة السياسية، ليسيروا وراءهم، وراء  "علمائهم" بانصياع كامل دون جهد أو نقد.
التلفزيونات العربية من شرقها إلى غربها تتحفنا بمداخلات رجال الدين يوميا وعلى مدار الساعة واصلة إلى كل القارّات. هذه التحف والحلول يستنبطها هؤلاء العلماء من تصورات شخصية وغيبية محدودة الفهم تستند إلى مزاجهم وعلومهم المحدودة، وتفسيرات دينية من العصور الخالية يُؤخذ بها كمقدسات لا شك بها ، تحمل كل "الاضاءات " والمعارف اللازمة للعيش في عالمنا الحديث! يتم تفسير النصوص الدينية أكثر مما تتحمل عندما تؤخذ كعلوم اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو طبيعية وحتى طبية. هذه التفسيرات-التبريرات لا علاقة لها بالدين بقدر ما لها علاقة بأفكار وغايات دعاتها.

التنوع الهائل في تبرير وتفسير النصوص الدينية وإلحاقها بفتاوى خارقة والتي يدعو بعضها إلى الرجوع إلى قرون غابرة كوضع المرأة والجهاد وحتى قتل الآخر المخالف،  كل هذا نراه في وسائل الإعلام وحتى في مراكز المعرفة من معاهد وجامعات! هذه الأوضاع تدعونا إلى الشك بنوايا هؤلاء المتزمتين  دينيا والذين ينصبون أنفسهم "عقلاء" يريدون خير الأمة.

هذه الإتكالية جعلت الناس يتقبلون أي شيء دون نقاش. مثلا مفهوم الأمة لا تحديد واضح لأبعادها، فهي مفهوم مطاطي نضع فيه ما نشاء. هل الأمة هي جماعة المؤمنين؟  أو جماعة المواطنين؟ أين نضع الذي لا يؤمن من هذه الجماعة ؟  أين نضع  غير المؤمنين أو الكفّار؟هل تنتمي جماعة المؤمنين إلى عقيدة واحدة؟ أين توجد هذه العقيدة الواحدة؟ هل عقائد الفرق الدينية  في نفس الدين متساوية في الحقوق؟ ما هي أهداف هذه الأمة الدينية سياسيا؟  ما علاقة الأمّة بالمواطنة الحديثة؟ هل يمكن  أن تكون في الواقع حزبا واحدا أو جبهة واحدة؟ أم أن الواقع يظهر لنا "أحزابا لله" مختلفة جذريا مع بعضها ... حتى التكفير والاقتتال؟

كل حزب ديني يدّعي الحقيقة المطلقة بغية احتكار السلطة دون منازع. عقيدته وحدها الصالحة لخير ما يتصورونه كأمّة. يطلب من أفراده الطاعة العمياء. الأفكار المغايرة تعتبر تحريضا وخروجا عن الجماعة. التفكير محتكر من قبل الموكلين عن هذه الأمّة. أي خروج عنها خيانة والحاد. الصراع العلني أو الخفي بين السنة والشيعة اليوم في العراق وغيرها برهان ساطع ومتوقع ومؤسف لهذه العقلية الدينية الشمولية.

·        عندما نضع على تراثنا الديني هالة من القدسية رغم  تناقضاته وتبريراته الخرقاء دون أي محاولة للفهم والتنقيح العلمي عما قيل ونقل. عندما نقبل اليوم مثلا عادات الأقدمين عن الحجاب ونصبغه بصبغة دينية غير مبررة. ونضع المرأة تحت سيطرة الرجل القوام على حقوقها ونقبل تعدد الزوجات  كشيء "طبيعي"، مقبول شرعا في عصر حقوق الإنسان وتحرر المرأة في كثير من الدول. عندما نبرر الزواج العرفي أو ما يسميه منتقديه بزواج المتعة، الذي هو في واقع الأمر بغاء وأفظع احتقار للمرأة. هل شهوة الرجل أكثر جموحا "بطبيعته" من شهوة المرأة ؟ أم  أن النساء العوانس "عليها" أن ترضى برجل متزوج أفضل من أن تبقى عانس وعالة على أهلها؟
·        عندما يشتري الحاكم طاعة وولاء "حكماء الدين" ليبرر سياساته. كل المؤسسات الدينية "الرسمية" في العالم العربي تنطق، لا باسم الدين دائما ولكن باسم الدين الذي يرغبه الحاكم. النفاق وتسويف وتسويق قيم الدين لغايات سياسية هي العملة الرائجة اليوم في عالمنا العربي وفي كثير من الدول المتخلفة وذات الديانات المختلفة.
·        عندما تبرر المؤسسة الدينية غناء أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية والمالية واحتكارهم وسيطرتهم على خيرات شعوبها. وتبقى ساكتة على البذخ والترف وهدر الأموال الهائل لملوك البترول وغيرهم من الذين "رزقهم الله"!
بهذه الثقافة وهذه العقلية وهذا السلوك الديني-السياسي، وعلى مدى سنوات، تتخدر عقول الناس فيقبلون بواقعهم لأن هذا الواقع هو الوحيد الممكن لخيرهم كمواطنين- مؤمنين!  واقع يظنون أنهم لا يمكن قهره ، كشيء مقدر عليهم. يتحول الكثيرون منهم إلى عالم الطلاسم  والشعوذات و"الاتكال على الله" كليا دون أي تفكير فردي ونقاش عقلي للتغيير ونقد ومقاومة الشذوذ الدينية والسياسية. ميزة هذه المخدرات ، إن كان لها ميّزة! أنها تخفف نفسيا عن الناس وتدخلهم في عالم الأحلام والظلال.

الإنسان في المجتمع المتقدم نسبيا والديمقراطي يستنبط الحلول الملائمة لا من عقول العقائديين الدينيين ولكن من الجهد العقلي الواعي والعمل الفعّال الجماعي لتجاوز المحن وتحسين أوضاع البلد وخلق مجتمع عادل يحترم الإنسان كإنسان دون أي تمييز ديني أو عقائدي.  


الديمقراطية بين السياسة الداخلية والخارجية



الديمقراطية التي تعني باختصار أن الشعب هو مصدر السيادة والسلطة في حدود الدولة الواحدة، تبقى معزولة، لا "يحق" لها التدخل للدفاع عن حقوق الإنسان في غيرها من الدول الديمقراطية أو الديكتاتورية.

رغم الانسجام بين الديمقراطيات العريقة بسبب الفلسفات السياسية التي انبثقت عنها، يبقى التدخل في الأمور الداخلية لهذه الديمقراطيات شيء غير مقبول، يترك عند حكامها امتعاضا لأي نقد خارجي لسياساتها الداخلية وكأن هذا تعد على سيادتها "المطلقة ".

أما بالنسبة إلى الدول الديكتاتورية التي تتعدى على شعوبها ولا تحترم حقوق الإنسان بشكل فاضح. فإن النقد الموجه إليها،  له حسابات اقتصادية ومالية وإيديولوجية، تحجّم وتخفّف من الدفاع عن حقوق "الآخرين" من البشر. قليل من الدول تنتقد مثلا الصين أو السعودية أمام التعديات الجائرة على حقوق مواطنيهم. أغلب الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية لا تنتقد مثلا إسرائيل باضطهاد للفلسطينيين أصحاب الأرض الشرعيين وتسكت عن احتلال الجولان السورية، رغم كل قرارات الأمم المتحدة!

كلّما كانت مفاهيم ومعايير الديمقراطية واضحة أمام الشعوب وخاصة المقهورة في حقوقها الإنسانية، كلّما تيسر لها نقد التصرفات غير الديمقراطية لحكامها ولحكام بقية الدول. مع التقدم الهائل للاتصالات أصبح الفكر السياسي للناس في العالم، أكثر وعيا وانفتاحا وتحررا. أصبح عند سكان الأرض رغبة باستجواب السياسيين في كل أنحاء العالم. الرسائل المنشورة على الانترنيت  مثلا، أظهرت ولادة وعي عالمي يدخل في معمعة الأفكار واتخاذ المواقف.

لا يوجد حاليا أية نية سياسية دولية لإعطاء سكان الأرض حيزا جماعيا للتأثير الفعلي والشرعي على سياسات الدول والأحداث العالمية للقضاء على الفقر والتخلف  والمجاعة والأمراض والصحة والتعلم والتلوث وتوزيع عادل لخيرات الأرض وتحديد أسعار عادلة للمواد الخام والمنتجات الزراعية والصناعية للمجتمعات الفقيرة.

ما العمل عندما يستتب الحكم للطغاة دون منازع؟ ينهبون البلد ويستعبدون المواطنين دون رحمة كما هو الحال في أكثر الدول العربية؟ بكثير من التفاؤل الساذج! يمكن أن نتخيل تحول الأنظمة العربية ولو تدريجيا وجزئيا وعلى مدى عشرات وعشرات السنين، إلى نظام له شيء من المضمون الديمقراطي. من الرائع أن نتخيل رئيسا لدولة عربية وصل إلى الحكم  هو وحزبه عن طريق انتخابات نزيهة ديمقراطية،  وهو يعمل بكل طاقاته لتحسين معيشة المواطنين دون غايات شخصية!

الشيء الممكن عمليا وواقعيا لتحريك الديمقراطية يكمن أساسا في المجتمع المدني الذي يستعمل العصيان والإضرابات والمظاهرات والمناشير والنقد المتواصل بكافة الوسائل لإحراج السلطات الطاغية ودفعها للتنازل وفتح طريق أوسع لمزيد من الديمقراطية.

من جهة أخرى على الدول والمجتمعات الديمقراطية، العمل بشكل جماعي ضمن المنظمات العالمية والتكتلات السياسية لإحراج الدول الديكتاتورية وتهديدها اقتصاديا ومقاطعتها سياسيا حتى تحترم مواطنيها حسب مواثيق حقوق الإنسان.  التصرف العالمي ضد سياسة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا كان نموذجا ناجعا أدى إلى وصول الأغلبية إلى الحكم بدءا بالرئيس منديلا.

أما العمل الفردي من قبل الدول لتغيير الأنظمة عن طريق التدخل العسكري سيؤول إلى كارثة. غزو العراق وتدميره قوميا واقتصاديا وماديا وثقافيا بشكل هائل ووحشي من قبل الأمريكان برهن على نيّات الغزاة وتلفيقهم للحقائق. لقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية على العراق "ديمقراطية" مطبوخة لصالحها ولصالح إسرائيل. أدخل العراق بشكل رسمي في نظام عشائري-قبلي-شعوبي-عنصري-ديني، بعيد كل البعد عن الديمقراطية والحداثة والشعور الوطني والانتماء العربي. هذا النظام  في العراق  في تعامله مع أقلياته ومنها مثلا المسيحيين الذين هم مواطنون فيها منذ القدم، يعطي لإسرائيل مبررات لخلق دولة لليهود  فقط ! لا يترك للفلسطيين العرب أي حقوق إنسانية وسياسية  معقولة.

التدخل الفردي يتم غالبا ما  بشكل إنتقائي لغايات لا علاقة لها بتحرير الشعوب ودون أي نية حقيقية لتفعيل الديمقراطية. مشروع الرئيس بوش لإدخال الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط عن طريق التهديد، بما فيه العسكري، خير دليل على هذا الفشل الذريع. الهدف غير المعلن للولايات المتحدة  هو السيطرة على سياسات البلاد العربية لضمان البترول لأجيال قادمة  واستغلال البترودولار  لبيع منتجاتها وخاصة السلاح  الذي يضمن بقاء هذه الأنظمة العربية العميلة.

كذلك الحال في تصرف الولايات المتحدة في تحيزها الكامل لإسرائيل، وبأقل مرتبة، للرجعية العربية، فهي تغض الطرف عن جرائم حلفائها وأتباعهم ولا تمنح أي فرصة  فعلية وأي مساعدة للشعوب للسير في طريق الديمقراطية. كل هذا لا يخدم ولا يقوي تعاطف الناس لمزيد من الديمقراطية وتحسين أوضاعهم المعيشية وحقوقهم الإنسانية. لأن من يدعون أنهم روّاد الديمقراطية  ينحازون  للحكام الديكتاتوريين  ضد إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها.

للعيش في سلام، من الضروري تحديد القيم  والسلوكيات الأخلاقية التي يمكن الأخذ بها في العلاقات الدولية لتصحيح المسار لتعاون  أكبر وأكثر معقول لتقوية أسس السلام العالمي لمنفعة الجميع. التكتلات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي ورابطة شرقي آسيا والكومنولث  ودول عدم الانحياز ومنظمة  الوحدة الأفريقية والجامعة العربية ومنظمة الدول الأمريكية والمنظمة العالمية الفرنكوفونية وخاصة الأمم المتحدة... كل هذه التكتلات توجد توازنا سياسيا يساعد على تدعيم السلام العالمي أفضل مما لو كانت الدول منفصلة عن بعضها البعض ومنطوية على نفسها. كل هذه التحركات الدولية  تخلق بيئة عالمية ضاغطة  تؤثر أفضل من قبل على اتخاذ القرارات السياسية. الاضواء الكاشفة  على سياسات الدول عالميا،عامل ايجابي لسلوكيات أفضل.



الدولة العلمانية في الغرب


الدول الغربية الديمقراطية اليوم هي علمانية. لا دخل للدين ومؤسساته  في أمور الدولة والتشريع. القوانين مدنية لا تستند على قواعد الدين بل على قوانين وضعية بنيت نتيجة توازن القوى السياسية والاجتماعية وعلى أرضية ثقافية عقلانية بعيدة عن التأويلات والمعتقدات الدينية.

الاعتقاد الراسخ في عقليتنا كعرب أن الغرب يدين بالمسيحية اعتقاد  خاطئ  لأننا  نقارنه بما نراه في مجتمعاتنا بربط الدين عنوتا بالسياسة وبالدولة وبالمجتمع ارتباطا عضويا لا انفصام فيه. الغرب " المسيحي" هو مسيحي من حيث التقاليد والثقافة والتاريخ. أما الايمان بالدين  فهو اختيار حر يعود إلى القناعة الفردية  دون أي إكراه خارجي. لا دخل للدولة بتوجيه سلوك الناس نحو قيم أو معتقدات أو شعائر أو سلوك أو قوانين صادرة عن أي دين. الدولة  حيادية  بالنسبة  إلى الأديان، هي ليست مع ولا ضد أي دين. الوطن للجميع دون اعتبارات دينية. حياد هذه الدولة العلمانية  الديمقراطية،  فتحت أبواب الحداثة  وأوجدت المساواة بين المواطنين وساعدت بذلك ظهور مؤهلات كبيرة في كافة المجالات دون طابع ديني مميز ومعلن بمكبرات الصوت! في هذه المجتمعات العلمانية الديمقراطية يمكن لأي مواطن أن يصل مثلا إلى قمة السلطة في الدولة. لا تسأل الدولة الغربية عن الأصول الدينية للسياسي ولا عن معتقداته  وممارساته  أو عدم ممارساته للدين.

الإكراه في الدين الذي نراه في مجتمعاتنا العربية  والذي يظهر مثلا  في حالات خروج الناس عن شريعة الصوم في شهر رمضان، أو تغيير الدين أو الكفر بالدين... له دلالات واضحة من أننا لا نقبل بتصرف مخالف لسلوك "القطعان" الذي يطالب الجميع بعدم الخروج عن الاتجاه العام مهما كان الاتجاه مخالفا لأي حق من حقوق الإنسان. في اعتقادنا الراسخ منذ القرون الوسطى من أن الدين – رسالة الله - هي المرجع الأعلى يسبق ويقوّم أي تشريع بشري ولا يجوز الخروج عنه.  الدين هو العقيدة الوحيدة الممكنة وغير ذلك شرّ يجب استئصاله وحتى بالعنف.

 هذا لا يعني أن المجتمع الغربي لا يحوي على جماعات متعصبة دينيا تستغل حرية العقيدة في النظام الديمقراطي للتأثير على السياسة وتحريكها تبعا لأغراضها الخاصة الدينية كما هو الحال في المؤسسات المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الامريكية مثلا.  لكن مؤسسات الدولة أخذت منذ زمن اتجاها علمانيا أصبح من أوائل عقائدها الديمقراطية. التجربة العلمانية  الديمقراطية الغربية أظهرت جليا لشعوبها نجاعة هذه الفلسفة التي دفعت بهذه البلاد إلى تقدم هائل في كثير من الميادين وأدى ذلك كله إلى سلام للمجتمع وتعايش لكافة الاديان والمعتقدات المتنوعة.

المشكلة التي يجابهها الغرب اليوم بالنسبة  للدين تصدر من المهاجرين والجاليات الآتية من دول تسيطر عليها عقلية ومرجعية دينية قويّة. التقوقع الاجتماعي-الديني-السياسي وحتى الاقتصادي  للجاليات الإسلامية خاصة، أظهر تناقضا فاضحا مع الفلسفة العلمانية الديمقراطية المنفتحة. التظاهر بالدين في المجتمع الغربي من حيث اللباس المسمى تدجيلا باللباس الإسلامي! وخاصة حجاب المرأة وحجاب دورها في المجتمع، وممارسة الطقوس علانية والمطالبة  بالمزيد من الامتيازات الخاصة بالدين كالمدارس الخاصة والحصول على إجازات خاصة في الأعياد الدينية... يولد صدمة حضارية للشعوب التي تستضيف هؤلاء المهاجرين. ليس من المعقول أن نفرض، على المجتمع الذي قدّم لنا جنسية جديدة في دولة ديمقراطية مع كل الحقوق التي لا نحلم بها في بلادنا العربية، العودة إلى الوراء بإقحام الدين بالسياسة والمجتمع دون أي اعتبار لقيم الحداثة التي تسيّر المجتمع الغربي، من ضمنها عدم وضع الدين كمرجع  أولي وأساسي للحياة العامة في المجتمع والمساواة بين الرجل والمرأة. رغم أننا على بينة واضحة بأن إقحام الدين في كل المجالات في وطننا العربي  وغيره من المجتمعات القديمة أدى إلى مزيد من التخلف السياسي والاجتماعي والثقافي وحتى الديني. وأدى إلى مزيد من التطرف الذي أضرّ ضررا هائلا ببلادنا العربية  وبكل الجاليات العربية باختلاف انتماآتها الدينية في الدول الغربية.

التبشير الديني، لكافة الأديان،  في الدول الغربية ، أخذ  بالنسبة إلى سكانه مكانة ثانوية  هناك تسامح  لوجود أي دين جديد  شرط ألا يكون إكراها  للناس. لكن هناك حساسية سلبية بالنسبة للمبشر المتزمت، خاصة إن كان قادما من مجتمعات متخلفة لا مجال فيها للنقاش والرأي المخالف، والذي يظن أنه يملك الحقائق المطلقة وأن من واجبه فرضها على الآخرين.  في عصر نرى فيه الحقائق نسبية حتى في المجال العلمي. العقل الحديث عقل تجريبي يبني "حقائقه" تبعا للعقل وللاكتشافات العلمية والتفكير الرصين بعيدا عن التحجّر العقائدي، تاركا مجال الإيمان الديني الغيبي أو عدم الإيمان لاختيار الفرد.

محاولة وضع الجاليات العربية الإسلامية في العالم  تحت وصاية رجال الدين والحركات الاسلامية كحركة الإخوان المسلمين وغيرهم  لن تؤدي إلاّ إلى تخلف هذه الجاليات في العيش السليم في دول ديمقراطية متقدمة وإلى تقوقعها بعيدا عن الحداثة والعيش في عالم  من المعتقدات التي "قولبها" لهم دعاتها. دعاة الدين المرسلين من الحركات الوهابية  خاصة الى المراكز الدينية في الغرب، يشوهون عقول المهاجرين وخاصة الاطفال  والشباب منهم  لرفض قيم الحضارة التي يعيشون فيها وتكفير سلوكيات غير المؤمنين وإدخال أسطورة التفوق الاخلاقي للمسلم في مجتمعات غير مسلمة. هذا التعالي والتقوقع يضعهم في موضع الشبهات لعدم  تأقلمهم  وعدم مساهمتهم الفعالة في المجتمع الجديد ويولّد ريبة  عند الغربيين في إخلاص هذه الجاليات لأوطانهم الجديدة. أموال البترول التي يوزع قسم منها لنشر الدين وتشجيع الحركات الاسلامية وحتى الإرهابية منها تجعل من الشبهات يقينا عند المواطن العادي الذي يرى بلده يعود إلى صراعات  قديمة ومنسية بسبب انفتاحه على المهاجرين الجدد. مع العلم أن العقيدة لا تنشر لا بالمال ولا بالدعاية المغرضة ولا بالإرهاب، خاصة في دول علمانية وضعت الدين في المجال الخاص وحيث القانون هو صاحب السيادة.

الرهان على أن الفراغ الديني في الغرب سوف يسهل دخول الاسلام اليه  ليأخذ مكان المسيحية فيه، وأن "النصر في الاخير هو للإسلام " رهان  سيؤدي إلى عكس ذلك، لأن المجتمع الغربي  أخذ منعطفا إنسانيا  ملخصا في ميثاق حقوق الإنسان.  لقد أنزل الغرب مكانة االدين كقيمة  مطلقة ، إلى مكانة نسبية. الدين له مكانته في هذا المجتمع  الغربي مع بقية المعتقدات  وبقية الانشطة البشرية من علمية وتكنولوجية وثقافية وفلسفية وفنية ... في أجواء من التسامح والتعايش المشترك. لم يعد هناك قبول شامل  للغربيين لدين يطغي على كل شيء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق