الجمعة، 17 ديسمبر 2010

تتوافق نشرات الأخبار على قناة الجزيرة وقناة العربية في التوقيت، وأحيانا في المواضيع المتناولة، ونادرا ما تتوافق في طريقة التناول والتوظيف السياسي للحدث.. والساعة التاسعة من مساء الاثنين من الأسبوع الفائت -كنموذج لهذه النشرات- كانت القناتان حاضرتين في اليمن، إلا أن كل قناة حضرت بطريقتها، والقناتان على الدوام وبمهنية عالية تعكسان السياسة المرسومة لهما من قبل المؤسسين والممولين، وهما طرفان يخوضان -منذ سنوات- حربا باردة. واليمن صاحبة المبادرات لإصلاح الشرق والغرب لم تبخل بمبادرة تقدم -بموجبها- أرضها ساحة لصراع الطرفين.


الجزيرة اتجهت يومها جنوبا، والإضراب الذي نفذه الحراكيون في عدد من المديريات بالمحافظات الجنوبية أصبح -بحسب الجزيرة- إضرابا شاملا في جنوب اليمن!!

وضيفُ النشرة لم يكن أحدا من قيادات السلطات المحلية في تلك المحافظات، ولا أحدا من قيادات المعارضة في المشترك، ولا أحدا من المحللين المستقلين، ولا أحدا من الصحفيين أو مراسلي القناة، ولا أكثر من طرف يعرضون وجهات النظر المختلفة، بل كان الضيف هو الدكتور ناصر الخبجي -أحد قيادات الحراك المطالبين بالانفصال بلا قيد أو شرط أو حتى حوار!!

وهذا الاتجاه من قبل الجزيرة يعكس رغبة قطر في لعب دور في الجنوب سبق وأن طلبت الدوحة -بالتصريح أو التلميح- فرصة لأن تلعبه هناك، لكنها لم تجد من صنعاء ردا إيجابيا حتى اللحظة -فيما يبدو، وقد يستجاب لها قريبا في حال رفضت وساطتها مجددا، وذلك كنوع من الإرضاء تتلافى به صنعاء خطأ تكرار الرفض الجارح للوساطة.

والخبران التاليان -في هذا السياق- سمعنا بهما منفردين، وعند دمجهما في فقرة واحدة يعطيان دلالة لم تكن واضحة عند تناول كل منهما بشكل منفرد، مفاد الأول: رئيس الجمهورية بعد زيارته الأخيرة لدولة قطر يغادر الدوحة متجها مباشرة إلى حضرموت، ليقضي هنالك أياما حظيت إقامته خلالها بتغطية تلفزيونية وإعلامية واسعة وتفصيلية. ومفاد الثاني: أمير قطر يغادر صنعاء بعد زيارته الأخيرة لها، والرئيس علي عبدالله صالح يحزم حقيبته متجها إلى حضرموت ليقضي فيها أياما حظيت إقامته خلالها بتغطية تلفزيونية وإعلامية واسعة وتفصيلية!!

وعودا على بدء: الجزيرة اتجهت في تلك الليلة جنوبا للحديث عن الإضراب «الشامل»، وقناة العربية -من جانبها- يممت صوب شمال الشمال، وتحديدا حرف سفيان، وكان مضمون الخبر هو إطلاق الحوثي سراح مائتي جندي إثر وساطة قبلية ترأسها الشيخ حسين الأحمر الذي استقبل الجنود في منزله بحسب القناة وإن لم تظهر صورته عند اكتظاظ المجلس بهم. وضيف النشرة هنا لم يكن أحد قيادات السلطة المحلية في عمران، ولا أحد قادة الجيش، ولا أحد قيادات الحوثي، ولا أحد قيادات المشترك، ولا أيا من الصحفيين أو مراسلي القناة، بل كان الدكتور كمال البعداني -أحد المناهضين للحوثية بقوة وبصورة تفتقر للأخذ بالاعتبار تفاصيل الصراع الدائر أو الالتفات إلى الأيدي الخفية التي تدير الحرب والتي تشير إليها التقارير المحلية والدولية ويؤكدها كثير من المحللين في الداخل والخارج.

لم تسأل قناة العربية عن الاشتباكات التي وقع هؤلاء الجنود في الأسر على إثرها، ولا عن طبيعة المعارك الدائرة هناك، ولا غير ذلك مما ينتظر السؤال عنه مما يتعلق بمضمون القضية، بل سألت -وكررت السؤال عدة مرات- عن الشيخ حسين الأحمر الذي نجحت وساطته في إطلاق هذا العدد من الجنود؟ وعن الثقل الذي يتمتع به الشيخ حسين وتمكن به من إطلاق هذا العدد الهائل من الجنود؟ وإلى آخر تلك الأسئلة التي تدور جميعها حول الشيخ حسين ولا شيء سوى ذلك!!



ماذا وراء هذا الخطأ..!؟ العربية تتحدث عن الشيخ «حسن الأحمر»..

وقعت القناة في خطأ تكرر أكثر من مرة في تلك النشرة، حيث كان المذيع يسأل عن «الشيخ حسن الأحمر» وليس «حسين»، وهكذا كتب اسمه على الشاشة فيما يعرف بالـ «كبشَن». وهذا الخطأ ليس عابرا يتطلب منا تجاوزه، بل وراءه دلالة مؤكدة، وهو أن السؤال عن ثقل الشيخ حسين الأحمر لم يكن نابعا من قناعة المذيع ولا متابعته لأخبار الشيخ حسين ونشاطاته، ولا نابعا من قناعة المعدين والمحررين في قسم التحرير ومتابعتهم لأخباره وأنشطته، فلو كانوا على قناعة بشيء من ذلك أو يتابعون نشاطه لكانوا قد عرفوا اسمه ولما وقعوا جميعا في خطأ نطق اسمه. ولو نطقه المذيع «حسن» وكتب على الشاشة «حسين» لقلنا إنه خطأ المذيع، ولو نطقه المذيع صحيحا وأخطأ الطباع في كتابته على الشاشة لقلنا خطأ مطبعي، أما وقد اتفق الطرفان على خطأ الاسم كتابة ونطقا وبصورة متكررة، فالمعنى أنهم لا يعرفون الشيخ حسين ولا سمعوا به، وإنما -فقط- وصل اسمه على الفاكس أو التلفون والشخص الذي استقبل المعلومة لم ينتبه جيدا للاسم وعممه على الجميع في الاستوديو وخارجه، وطلب منهم في تلك الرسالة التي تضمنت اسمه أن يروجوا له رغم أنهم سمعوا به تلك الليلة لأول مرة!!

هذا الخبر الذي تجاهلته الجزيرة، توقفت العربية عنده طويلا، والهدف واحد: إثبات ثقل الشيخ حسين. لكن القناة قبل أن تثبت ثقله وتحقق الهدف المطلوب، أثبتت أمورا أخرى على قدر من الأهمية وجميعها ظلت تتحاشاها على امتداد فترة تغطيتها لقضية صعدة، فقد أثبتت أولا -وبالصوت والصورة- صحة المعلومة المتعلقة بأسر الحوثي لمائتي جندي، وهي المعلومة التي تضاربت حولها التصريحات الرسمية. وأثبتت للرأي العام الداخلي والخارجي أن الحوثي أقرب إلى تقديم التنازلات وأحرص على السلام، إذ ليس من السهل أن يسلم مائتي جندي من الحرس الجمهوري بهذه البساطة وقبل أن يستثمر أسرهم كورقة ضغط هي -بالنسبة للمتعارف عليه في دول العالم- أكثر الأوراق ربحا!! والأمر -في حقيقته- إنجاز تستطيع أبسط وساطة تحقيقه، ذلك أن الحوثي يخشى -أولا- التبعات المستقبلية المحتملة لبقاء هؤلاء المئات عنده وأن يتعرضوا لموت جماعي على غرار ما حدث مرتين خلال الحرب السادسة، إذ أعلن في المرة الأولى وفاة نحو (200) جندي دفعة واحدة جراء تعرضهم للقصف -كما قال- ثم أعلنت وسائل الإعلام وفاة قرابة ضعف هذا العدد دفعة واحدة أيضا، وجميعهم من الأسرى لديه.

ويدرك الحوثي أن بقاء هؤلاء لديه ينشئ ضده حقدا مجتمعيا، ذلك أنهم -بهذا التعداد- يمثلون عشرات القبائل والمناطق اليمنية، وهو في مرحلة غدا فيها يفكر جيدا بأي تصرفات من هذا القبيل تثير ضده الحقد المجتمعي الذي يُعقّد عليه المهمة في المستقبل. ويعلم الحوثي يقينا أن السلطة لا تهتم لهؤلاء المئات من الجنود إذ تتعامل بمنطق «الجندي بداله جندي»، وبالتالي فإن أسر العشرات أو المئات أو الآلاف من الجنود، كله سواء ولا يشكل ورقة ضغط، وإنما قد يحرص على استبقاء واحد منهم لو كان هذا الواحد من القيادات الكبيرة أو المتوسطة التي تنتمي للقبائل الكبرى ذات التأثير الكبير في السلطة، فهؤلاء فقط هم الذين يمكن استثمار أسرهم واستخدامهم ورقة ضغط تفاوضية رابحة، أما سواهم فليس له من بقائهم -إضافة إلى النقاط السابقة- إلا متاعب حراستهم وتوفير متطلباتهم من الأكل والشرب والدواء والعلاج والهم والهرم.. إلخ!!

وهذه النقطة الأخيرة هي الأقل أهمية من بين مبررات إطلاقهم، لكنها تتعاضد من النقاط السابقة لتشكل -في مجملها- مبررات منطقية تدفعه للتخلص من الجنود الأسرى بأي شكل، فكيف وقد توفر له إطلاقهم استجابة لوساطة قبلية يستفيد منها سياسيا وإعلاميا، وقد شهدنا قبل أشهر كيف أطلق عشرات من الجنود المنتمين للمحافظات الجنوبية وكيف استثمر ذلك سياسيا وإعلاميا، وقد أطلقهم من تلقاء نفسه بغير وساطة، لا ثقيلة ولا خفيفة!!

لا أريد بهذه الأسطر أن أنفي صفة تمتع الشيخ حسين الأحمر بالثقل السياسي والاجتماعي، فالمعروف أنه أصبح الأثقل من بين أبناء الشيخ عبدالله بن حسين ومشائخ حاشد، سواء سياسيا أو اجتماعيا أو من حيث علاقاته بالإقليم. وإنما الهدف هو الإشارة إلى تعسف قناة العربية في إضفاء هذه الصفة عليه، وهو ما يبدو مطلبا سعوديا واضحا وجليا، وهذا هو محل الشاهد ومربط الفرس وبيت القصيد!!



الوكيل الحصري للمملكة فـي اليمن

لقد حاولت السلطة منذ انتهاء الحرب السادسة أن تضرب العلاقة القائمة بين مشائخ حاشد والمملكة العربية السعودية لترفع عنهم الدعم المالي والسياسي الذي يعتمدون عليه اعتمادا يكاد يكون كليا، ودفعت بعدد من مشائخ بكيل للقاء بالعاهل السعودي وولي عهده وتوسطت لترقيتهم وتثبيتهم في كشف الراتب بعد عقود ظل أكثرهم -خلالها- يعمل «بالقطعة» وفق نظام الأجر اليومي، أو وفق نظام التعاقد!! ويبدو أن ذلك لقي قبولاً لدى المملكة، لكن تلك الخطوة لم تأت على حساب حاشد كما أرادت صنعاء، إذ زادت الرياض تمسكها بحاشد كحليف تاريخي وتحديدا بالشيخ حسين الأحمر الذي يشق طريقه ليغدو الوكيل الحصري للمملكة في اليمن خلفا لأبيه، ذلك أن الشيخ صادق ورث عن أبيه توافقا وعلاقة جيدة مع كل الفرقاء، لكن الواقع باعد بين هؤلاء الفرقاء حتى أصبح الجمع بين ودّهم ضربا من المستحيل، فلم يستطع المفاضلة بين هذه الأطراف والانحياز -بالتالي- إلى طرف على حساب البقية، فكانت هذه الحيرة كفيلة بقتل روح المبادرة لديه وبتقييده عن الفعل السياسي المؤثر على المشهد، ولهذا نجده في الصفوف الأولى مع أعمدة النظام كلما دعوه إلى فعالية يرون وجوده فيها مهما بالن

سبة لهم، ونجده في الصفوف الأولى في المؤتمرات والفعاليات الكبرى التي ينظمها التجمع اليمني للإصلاح، ونجده في الصفوف الأولى في ملتقيات السلفيين، وفي الصفوف الأولى في ملتقيات علماء اليمن. وهو -في كل ذلك- لا يهدف -كما أتصور- لأكثر من استرضاء الجميع حفاظا على الود القديم، غافلا عن أن «رضا الناس غاية لا تدرك»، وأن التوسع وفق رؤية وتحت لافتة المشروع الوطني هو أول وأهم أدوات الحفاظ على الموجود.

والأمر لا يختلف كثيرا عند الشيخ حميد الأحمر، فالرجل الذي لمع نجمه في انتخابات 2006م وظهر -حينها- كصاحب فعل ومبادرة، سرعان ما وقع في أسر حيلة نفسية إذ وجد في «اللجنة التحضيرية للحوار الوطني» دولة تملأ شعوره ورغبته في الحكم، وهو -في الحقيقة- قد ظل على امتداد عمل هذه اللجنة يدور في ذات الإطار لم يتجاوزه إلى أبعد. والثلاثة (صادق، وحميد، وحسين) يدورون مثل كرات الثلج، فالأخير يدور مثل كرة الثلج في مكان بارد ومفتوح ويزداد حجم الكرة مع كل دورة وإن كانت هذه الكرة على الدوام تحت سيطرة الأخ الرئيس، والثاني يدور مثل كرة الثلج في مكان مغلق وساخن، وهذه الكرة ينقص حجمها مع كل دورة، والأول في حال وسطى وأداؤه أشبه بأداء الأحزاب التي لا تزيد حركتها عن إثبات الحضور معتقدة أنها تحافظ على الموجود وهي في الحقيقة تقف بانتظار ما سينجلي عنه الغبار.

انضم الشيخ حسين إلى لجنة الحوار الوطني التي يقودها أخوه حميد من موقعه كأمين عام، ولم يكن ذلك الانضمام عن قناعة بقيادات اللجنة ولا بمشروعها الذي حددته الأحزاب، ولا حتى بمشروعها الذي حددته الأشخاص، بل كان انضمامه إليها انعكاسا للعلاقة بين الرياض وصنعاء التي تزداد سوءا يوما بعد آخر منذ انتهاء الحرب السادسة في صعدة.

ومؤخرا، وقعت الأحزاب اتفاقاً على الحوار مع السلطة، وهو ما لا يرغب فيه الشيخ حميد إذ في هذا الاتفاق ما ينتزع منه دولته المصغرة التي وجد فيها ذاته، ولا يرغب فيه الشيخ حسين باعتبار أن المملكة ما زالت بحاجة إلى وقت تلاعب فيه السلطة، خاصة بعد استقدامها لوساطة الدوحة.

ولو كان الشيخ حسين ومعظم أصحابه في مجلس التضامن يريدون التحاور مع السلطة خلال هذه الفترة لتحاوروا معها من غير حاجة إلى لجنة الحوار ومن معها من الأحزاب، وهم أقرب إليها. ولهذا لم يدرج اسم حسين ضمن المائة شخص الذين تقدمت بهم أحزاب المشترك، وأحسب أن الشيخ حميد لعب دورا بارزا في استبعاده على أساس أن حميد وحسين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، بمعنى: عندما يكونون في تكتل واحد يظهر بينهم التنافس والخلاف والتنازع، وإذا تباعدت تكتلاتهم دعم كل منهما الآخر بحكم الرابطة الأسرية.

ولهذا، أي لأن الشيخ حسين لا يرغب في الجلوس حاليا على طاولة المفاوضات مع السلطة باعتبار أن السعودية لا تريد ذلك، أو هكذا فهم الشيخ حسين رغبتها، فقد ظهر «مشرفا» على كيان جديد حمل اسم «ملتقى أبناء صعدة للإخاء والسلام والبناء»، ووضع الملتقى لنفسه عدة أهداف يعمل من أجلها، والهدف التاسع منها جاء ينص على أنه «يتعامل أبناء صعدة ومشائخها مع أي خلافات لا يستطيعون حسمها بالحوار والصلح بموجب قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)». والبند واضح وضوح الشمس في رابعة النهار: الفئتان اللتان لا يستطيعون التوفيق بينهما فإنهم مباشرة سيخضعون الباغية منهما بقوة السلاح بموجب الآية (فقاتلوا التي تبغي). يريدون أن يقولوا: هكذا أراد الله. لكنهم لم يقولوا ذلك صراحة. وأريد أن أقول: هكذا أرادت المملكة. لكني لن أقول ذلك صراحة!!

هذا الكيان الذي ظهر على رأسه الشيخ حسين بصفة «مشرف»، ويشغل فيصل مناع منصب الأمين العام فيه، قد سبقه بأيام ملتقى آخر حمل اسما مشابها برئاسة فارس مناع في صعدة، وحدد أهدافه بدراسة قضايا الصراعات القبلية، ومن ثم النزول الميداني لحلها.. ودراسة الإمكانيات المتاحة لتنمية الموارد الطبيعية وتحسين طريقة استخدامها عبر تشجيع المواطنين على بناء السدود وتحديد محميات طبيعية لزراعتها بالأشجار وتنظيم عملية استخدام المراعي لرفع مستوى مردودها واستغلال الموارد الزراعية التي تزخر بها المحافظة وتسويقها ودعمها والاهتمام بالثروة الحيوانية..».

وبالنظر إلى هذه الفقرة، فإن هذا الملتقى قد أسند لنفسه مهام الدولة، وأي منطق هذا الذي يتحدث به كيان سياسي أو قبلي -مهما علا شأنه- ويزعم فيه أنه سيتولى قضايا الجسور والسدود والزراعة والمحميات الطبيعية والثروة الحيوانية ومسح قضايا الثأر وحلها..!؟

إنهم يريدون أن يفعلوا شيئا لكنهم لا يعرفون ما هو؟ أو يعرفون لكنهم يخفون مرادهم وراء لافتة البناء والتنمية، أو إنهم يريدون -بذلك- أن يملؤوا خانات «فواتير المطالبة»، أو ربما أن ذلك ليس إلا شطحة من شطحات العقل الجمعي حين تتزاحم الأكتاف في الخيام فيحسب القوم من كثرتهم أنهم غدوا قوة تخرق الأرض أو تبلغ الجبال طولا.. وقد يكون كل ذلك صحيحا، كما قد يكون كل ذلك خطأ باستثناء النقطة المتعلقة بـ»فواتير المطالبة»!!

ab_shamsan@hotmail.com



عاشورا

يحتفي المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في هذا اليوم العاشر من محرم بصيام يوم عاشوراء وقد حث الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، على صيام هذا اليوم على وجه الاستحباب لا الوجوب.




شرع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صيام هذا اليوم والاحتفاء به بعد أن بلغه أن اليهود يصومون هذا اليوم ويحتفون به على اعتبار أنه اليوم الذي أنقذ الله فيه موسى، عليه السلام، وأهلك فيه «فرعون» وجنوده، فما كان من الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، إلا أن أعلن أنه أحق بأخيه موسى من اليهود، فصام هذا اليوم، وأصبح صيامه من السنن الثابتة عند المسلمين، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس، رضي الله عنه، أنه قال: (مارأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صام يوماً فتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يعني «عاشوراء».



إن احترام الإسلام للأنبياء والأديان يؤكد الحقيقة الإسلامية الخالدة التي أكدها الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، في قوله: (الأنبياء إخوة ودينهم واحد).



يوم عاشوراء يوم من أيام الله أراد له الخالق عزوجل أن يكتنز الكثير من الابتلاءات المرتبطة برحلة الصراع من أجل الحرية.. يقلب الله لنا فيه الابتلاءات بالشر والخير فتنة. فكما ارتبط هذا اليوم بذكرى نجاة موسى عليه السلام ومن معه من المستضعفين «ونريد ان نمن على الذين استضعفوا ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين» ارتبط هذا اليوم أيضاً بذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه .



و إذا كان الخالق عز وجل قد أكرم الإمام الحسين بالشهادة وجعله رمزاً من رموز النضال من أجل الحرية فإن فتنة الابتلاء باستشهاده لا تزال تجلياتها حاضرة في كل ذكرى تمر موردة بالدماء محفوفة بمخاطر شتى .. ولا يزال التوتر بعد ألف وأربعمائة عام سيد الموقف، لا سيما في تلك البقعة التي استشهد عليها الحسين.



وما تلبث الدلالات المتفجرة أن تتحول بين لحظة وآخرى إلى دوي تفجيرات مرعبة وأنهار من الدماء تسطر على كل جدار في كربلاء تخلفنا وهمجيتنا واخفاقنا في مواجهة ابتلاء الشر والخير.



هذا الإخفاق يؤكد حاجتنا الماسة إلى مراجعة الذات وتحريرها أولاً،ولعل هذا هو الدرس الذي أراد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا إياه عندما أمرنا بالصيام في هذا اليوم على وجه الاستحباب لا الوجوب.فالصيام تدريب للاستعلاء على نزوات الذات ورغباتها الفوضوية والتي تستعبد الإنسان ومن سمات الإنسان الحضاري كما يحددها علماء الاجتماع قدرته على السمو يقول جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي « الحرية المعنوية هي وحدها التي تجعل من الإنسان سيد نفسه حقيقةً ، إذ أن نزوة الشهوة وحدها هي عبودية وإطاعة القانون الذي نسنَه لأنفسنا هي حرية».



هذه ثلاثية عاشوراء ثلاثية الحرية المتعانقة لا المتفارقة ثلاثية توحيد وتحرير لا تفريق وتناحر فمتى نرتقي للتعامل مع هذه الابتلاءات بعقلية حضارية تستلهم الدرس وتنتصر على همجية نوازع النفس؟!



&< تأسيس قواعد التعايش



لم يكن الهدف من إقرار الإسلام للأشهر الحرم التأكيد فقط على تحريم الدماء في أيام معلومة وأشهر معلومات، ولكن الإسلام أقر هذه الحرمات للتأسيس لقواعد التعايش الدائم في المجتمع الإسلامي بين المسلمين و مع غيرهم. وكان حقن الدماء وتأجيل الثارات في أشهر معلومات بمثابة القاعدة التأسيسية للسلام الدائم وهذا ما أكده رسول المحبة والسلام عليه السلام في خطبة الوداع حين قال: ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا. ألا وأن أحرم الشهور شهركم هذا. ألا وإن أحرم البلد بلدكم هذا. ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».فحرمة الدماء حرمة دائمة والتأكيد على التحريم في أيام معلومة ينصرف بدرجة رئيسية إلى تحريم دماء المعتدين علينا من أعدائنا الذين بادرونا في القتال في غير الأشهر الحرم فالأسلام يوجهنا لتأجيل الاقتصاص إلى ما بعد الأشهر الحرم فهي هدنة مؤقتة نحترمها إذا احترمها غيرنا، وقد تعارف العرب على حرمة هذه الأشهر كتقليد توارثوه من بقايا الحنيفية الابراهيمية، فأكد الإسلام أهمية احترام هذه الحرمة التي أخذت طابع العقد الاجتماعي بصيغة التوافق العرفي وكان الغرض تأمين حركة تنقلات الناس وسفرهم في المواسم الدينية والتجارية سواءاً كانت خاصة بالمسلمين أو غيرهم ولو تأملنا الأشهر الحرم لو جدنا منها ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورابع منفرد هو شهر رجب يأتي بعد مضي خمسة أشهر من الثلاثة الأولى وهذا يعني أن هده الأشهر تمتد مع تنوعات فصول السنة لتتناسب مع إختلاف مواسم التجارة والزراعة و كان الغرض المعلن في بداية التشريع من تحريم شهر رجب احترام المناسك الدينية لقبيلة مضر التي كانت تؤدي مناسك العمرة في هذا الشهر ويمكن أن نفهم من ذلك أهمية احترام المسلمين لأي مناسك دينية يؤديها المسلمون أو غيرهم في أيام محددة من السنة وتأجيل ثاراتنا مع أي طائفة دينية في أيام مناسباتهم الدينية فلو افترضنا أن دولة مسيحية اعتدت على دولة مسلمين قبل أعياد الميلاد، فهل من المنطق الموافق لقياس الأشهر الحرم أن نعلن الجهاد على هذه الدولة في أعياد الميلاد إذا أوقفت الدولة المعتدية هجومها على المسلمين هذه الأيام.وإذا اعتدت دولة ينتسب معظم سكانها إلى المذهب الشيعي ، فمن الوجب الديني والإنساني احترام أيام المناسبات الدينية في هذه الدولة كأيام عاشوراء مثلاً وتأجيل خلافاتنا معها في هذه الأيام، وإذا أقرت الأمم المتحدة هدنة دولية في مواسم معينة فما الذي يمنع المسلمين من المبادرة إلى احترام هذه الهدنة وتأجيل ثاراتنا مع من ظلمنا، أليس هذا ما ينبغي أن نفهمه من الآيات الأتية التي نزلت بعد فتح مكة في آخر مرحلة من مراجل التشريع:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ابتدأت الآيات بالتأكيد على أهمية احترام العقود والتوجيه هنا لا ينحصر في عقود معينة ولكنه يحمل صفة العمومية المطلقة مما يعني أهمية الوفاء بالعقود والمواثيق الاجتماعية التي يتعاقد عليها الناس بتوافقهم الاختياري وقد خاطبتنا الآية بصفتنا مؤمنين وفي ذلك تأكيد أن الوفاء بالعقود هو مقتضى الإيمان الحق ومن العقود التي يجب أن نحرص على الوفاء بها، مواثيق العقود الدستورية التي توافق عليها الناس وطورتها البشرية للحد من طاغوتية الحاكم الفرد،ولإرساء قواعد التعايش بين البشر، ولتحقيق العدالة التي أمر بها الله في كل الديانات السماوية وناضلت من أجلها الفطرة البشرية وطورت السياجات الرادعة لتغول الطغيان وتكبيل السلطة المطلقة فما بعث رسولنا الكريم إلا لتتميم مكارم الأخلاق و قد أكد أنه لو دعي إلى حلف الفضول في الإسلام لأجاب والأنبياء إخوة ودينهم واحد وما كان نبياً الكريم بدعاً من الرسل ولسنا أمة تعيش خارج السياق التاريخي والثقافي البشري فللمسلمين امتدادهم الشرعي مع سائر أتباع الملة الإبراهيمية وامتدادهم الفطري مع سائر الثقافات البشرية وللمسلمين موجهاتهم الضابطة وأهما الحرص على تجسيد قانون العدل ومحاربة الطاغوت. وبعد أن عدد النص القرآني بعض أنواع العقود التي يجب على المسلمين الوفاء بها قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} والقلائد كما جاء في بعض كتب التفسير هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ; فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به , وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان، ونستطيع أن نضيف إليها بالقياس من يرفعون الريات البيضاء والاستئمان الرسمي بالوثائق الدبلوماسية وما أشبه ذلك،



واختتمت هاتان الأيتان بقوله تعالى{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }ولا أجد تفسيراً لهذا الأية أجمل من تفسير سيد قطب ومن الجميل أن أختتم هذه التناولة بهذه العبارات المرفرفة لصاحب الضلال يقول سيد رحمه الله:



«وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان , يدعو الله الذين آمنوا به , وتعاقدوا معه , أن يفوا بعقدهم ; وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ; بلا تأثر بالمشاعر الشخصية , والعواطف الذاتية , والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ; وقبله كذلك ; وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ; وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض , فهذا كله شيء ; وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم:



(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله , إن الله شديد العقاب). .



إنها قمة في ضبط النفس ; وفي سماحة القلب . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء.



إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام , ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ; تجذب الناس إليه وتحببهم فيه» .





*الصحوة نت

حوار في الاسلام والعلمانيه للدكتولراحمد الدغشي














































ابحث





بحث متقدم













































--------------------------------------------------------------------------------



حوار في الإسلام والعلمانية-الحلقة الثالثة

08/10/2010

أ.د. أحمد محمّد الدَّغَشِي-*







العلمانية ليست حلَّاً سحرياً لمجتمعاتنا



تتلخص فكرة هذه الحوارية في تعقيب أحد الأصدقاء ويرمز له باسم ناصر على كاتب هذه السطور بعد حوار صحافي على صفحات (الناس) تناول جملة من قضايا الفكر والتربية و بعض إشكالات العمل الإسلامي، فكانت هذه المحاورة للصديق ناصر في سلسلة حلقات، متمركزة حول العلمانية وما إذا كانت مخرجاً لمجتمعاتنا أم كارثة جديدة!



تساؤلات مشروعة:

ولك الآن أن ترجع بفكرك بعيداً لهذه الممارسة التاريخية ذات الأهمية البالغة، كي تستنتج من خلالها أن لا مشكلة جوهرية بين الممارسة(الديموقراطية) التي أحبذ وصفها شخصياً بـ(الشوروية)، وبين ما تنادي به -كما آخرون- من ضرورة التفويض الشعبي...إلخ بيد أن ذلك لايؤذن باستعارة كاملة للنموذج الغربي(الديموقراطي)، إذا ما أدركنا حقيقة الذات قبل الانبهار بحقيقة الآخر. واسمح لي أن أصارحك القول - وأنت أخ سبَّاق إلى ذلك- : إن مشكلة المشكلات عندنا ضعف إدراكنا بحقيقة الذات من خلال معين القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة، قبل أي مصدر آخر. وأدرك أنك ستبادر إلى القول ولكن وفق فهم أي مدرسة أو مذهب، وهنا أرجو أن تصلك نسخة من دراسة سابقة لأخيك حول إشكال من يمثل الإسلام؟ تلك التي صدرت قبل أكثر من عامين عن مركز الناقد الثقافي بدمشق، مع جملة دراسات أخرى، بهذا العنوان.؟ واسمح لي فقط الآن أن أذكّر بجزئية منها فيما يتصّل بظاهرة المدارس المتعارضة، فهذه حقيقة ثابتة – أعني التعارض والاختلاف حتى في الأصول والكليّات- في كل الأديان والفلسفات والمدارس والأفكار والاتجاهات الدينية والسماوية، العلمانية والأرضية، المؤمنة والملحدة، غير أن ذلك لايؤذن لدى أيّ منها بضياع الحقيقة، أوبسلامتها جميعاً، من حيث السويّة في الفكر أو الاستقامة في المنهج، وإلا فأنت تعلم -قبل غيرك- أن الديمقراطية ألوان شتّى، وأن الاشتراكية كذلك مذاهب قِدداً، بل العلمانية – أيها العزيز- نماذج وصور فيها من التناقض والاحتراب أحياناً ما لايخفى على مثلك، فهل العلمانية الفرنسية كالبريطانية كالأمريكية – على سبيل المثال- ؟ بالقطع ليست كذلك؟ وها أنت ذا تدعو للأخذ بهذا النموذج فأي النماذج تعني؟ وهلاّ وقفت مع نفسك وقفة تساؤل علمية موضوعية صادقة- كعهدي بك- أيّ النماذج نأخذ؟ ومن الذي يمنح واحدة منها المشروعية ويحرم سواها؟وكيف سنواجه من سيعارض النموذج المختار من قبل فئة، نفذت إلى السلطة، بأي طريقة، مشروعة أو غير مشروعة، أو تمكنّت من إقناع صانع القرار بالعلمانية؟ على افتراض أن ذلك أمر ممكن الورود، ولن يواجَه من عموم المجتمع المتديّن، بانتفاضة أو ثورة شعبية شاملة؟ أرجو أن لا تقول لي فقط: مهما يكن الأمر فليس أحد يدّعي لأي منها قداسة السماء، بخلاف اختلاف (المتديّنين)، حيث يدّعي كل منهم وصايته على الدين باسم السماء. ولئن قلت لي ذلك أولم تقل فلا أستبعد أن يقول ذلك بعض من قد يطلّع على حوارنا، أو من يؤمن بالعلمانية كـحتمية (دوغماء) لاتقبل سوى الانصياع والإذعان. وحينها أجدني مضطرّاً لأن أسترسل فأذكّر بأن ليس لأحد أن يصف الفكر الإسلامي الوسطي{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(البقرة:143) بصفات التحدّث باسم السماء، أو أن يشبّهه بالحكم الديني الثيوقراطي الكهنوتي(الكنسي) الذي حدث في أوروبا على مدى قرون متطاولة، على يد رجال الديّن هنالك، ذلك أنه وإن وجد عندنا من قد يمارس مسلك (البابوات) و(رجال الدّين)؛ فإنّه يمثل وضع الشذوذ، وإلا لما كان لسان حال الأئمة العظام ومقالاتهم كالأئمة الأربعة وسواهم تؤكّد أن ليس للعالم أو المفتي أن يجزم بالحل والحرمة في كل مسألة تعرض له، وإنما يقدم رأيه وفهمه لا أكثر ولا أقل، ولولا خشية الإطالة لأوردت عليك بعضاً من ذلك، لكني جمعت بعض أقوالهم في هذا الباب في دراستي المشار إليها في كتاب( من يمثل الإسلام؟)، وحسبي في هذا السياق الإشارة إلى ذلك التوجيه النبوي العظيم الذي يخاطب فيه النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم- قادته العسكريين – على سبيل المثال – بقوله: ( ........ وإنك إن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على رأيك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا )(مسلم، صحيح مسلم (بشرح النووي) ، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته بآداب الغزو وغيرها عن بريدة بن الحصيب، د.ت ,د .ط , القاهرة المكتبة الأميرية ومطبعتها، جـ 12 ص39 – 40). فالاتجاه الغالب – أيها العزيز- في كل عصر هو اتجاه الوسطية الإسلامية، أي السواد الأعظم من المسلمين، من مختلف المذاهب والطوائف المعروفة بـ(أهل القبلة)، استناداً إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أنس بن مالك" من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم الذي له ذمّة الله ورسوله"، وهذا الاتجاه يبرأ في مجمله من ذلك المسلك (البابوي) الشائن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فذلك الوصف ذاته أعني احتكار الحقيقة والتحدّث باسم المطلق والنهائي؛ ينطبق على الاتجاه العام لـ (العلمانية)، من حيث التطبيق والواقع، في الغالب الأعم، لا من حيث الشعار والإعلان، ولا يعنيني أكثر من الأول، ذلك أن الشعار مالم يجد له مصداقية مجسّدة لأحقيته كاتجاه عام أو غالب يظل شعاراً فارغ المحتوى والفاعلية. وكي لا نقع في ازدواجية المعايير فإنك إن قلت لي: الأخطاء في التطبيق لاتعني فساد النظرية ضرورة فسأجيبك لماذا تستقيم هذه القاعدة في اتجاه العلمانية ولاتستقيم في اتجاه الفكر الإسلامي، مع فارق جوهري لصالح الفكر الإسلامي يكمن في أنّه ظل فاعلاً مؤثّراً – بأقدار متفاوتة- طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً على حين أن كل المقدّسات والأيديولوجيات (الوضعية) تلاشت في بضعة عقود، ولم يبق لها سوى نخب متناحرة غالباً، معزولة عن الفاعلية والتأثير المجتمعي، وما ظل منها حاكماً فقد نُسخت نظريته عملياُ، ولم يبق من جوهر الفكرة الأصلي سوى العنوان، أمّا تطبيقها فلايقارن بتطبيق النظرية السياسية الإسلامية، على مدى القرون السابقة، أيّاً ماشاب بعضها، من خلل أو انحراف، ولعلك تلاحظ معي أنّ كل الضربات التي وجّهت للإسلام؛ لم تقض عليه بل زادته قوّة إلى قوّته، إذ يخرج كل مرّة، أكثر قوّة وصلابة من السابق، كالذهب الذي لا تزيده قوّة الطرق إلا لمعاناً، ولك أن تلاحظ هذا في حجم التآمر على الإسلام في أيامنا داخلياً وخارجياً، مع ما يعلمه الجميع من الوضع البائس للمجتمعات الإسلامية، وذلك يؤكِّد أن قوّة الإسلام الذاتية المستمدة من قوة أساسه، وثراء ينبوعه هي المحكّ الفاصل بينه وبين كل الأيديولوجيات والمقدّسات البشرية؟!!!

مفارقة : المقدّس الديني أم العلماني؟

* ما يوصف بالمقدّس((Sacred الديني ليس المشكلة الكبرى حقيقة، بالقدر الذي يؤكّد أن إحلال العلمانية ليس الحلّ السحري لمجتمعاتنا. ومع التأكيد على أن الاستبداد والعسف والطغيان قد يرد تحت دثار الدِّين أو العلمانية؛ لكن المفارقة التي ينبغي أن لانمرّ عليها مرور الكرام تشير إلى أمر غاية في المفارقة، ذلك أن كل من أراد أن ينال من المقدّس إنما يشير إلى المقدّس الديني، دون غيره من مقدّسات العلمانية، على حين أن كل الشواهد تدلّ أن أبرز الطغاة الذين حكموا العالم المعاصر الشرقي والغربي أغلبهم إن لم يكن جميعهم ممن ينتمون إلى تيار العلمانية، وليس التيارات الدينية، وإذا كنتُ جريئاً فأذكر بعض رموز العلمانية الشيوعية السوفيتية أو الغربية أو الصينية أو سواها كاستالين ولينين وهتلر وموسوليني، أو ماوتسي تونج وحتى بوش الابن، وسواهم من مختلف القارات والبلدان، غير أني أصدقك القول: إني لا أجرؤ أن ألمِّح إلى بعض (المقدّسات) العربية العلمانية– كي لا أفقد بعض أصدقائي وربما بعض قرّائي- ذلك أن حجم الهالة وضخامة التقديس بل (إخلاص العبادة) على الطريقة العلمانية طبعاً، تلك التي صنعت حولهم هالة (الكهنة)، بحيث لا يسمح بانتقاد أو حتى إبداء ملاحظة لدى بعضهم، تحول دون ذلك التصريح، أو الجبن – إن شئت الدّقة- !! ورحم الله الراحل العزيز حميد شحرة الذي أشار في ذات مقال بمجلة نوافذ إلى أن كثرة الحديث عن المهدي المنتظر لابد له من مراجعة، إذ لا يعقل أن يظهر المهدي – وفق مذهب المؤمنين بقدومه- في عالم لايزال يقدّس أمثال الرمز فلان وفلان وهم على غير منهج المهدي قطعاً(وعدّد شخصيات مقدّسة عند اليمين واليسار)، فلم يغفر له بعضهم وجهة نظره، بل لقد قال لي رحمه الله في ثنايا استغرابي لسرّ ذلك الهجوم العنيف عليه: أتدري ممن أتى أقسى الردود؟ فسألته ممن ياتُرى؟وظننت أنّه سيشير إلى أحد المراهقين المتهوّرين، لكنه ذكر لي شخصية يسارية مسنّة نسبياً، يعلو سمتها الظاهري الوقار، واشتهرت منذ سنوات بالتنسّك والزهد، ذلك أن (حميداً) مسّ مقدّسه (الفرد)!!

فبالله عليك – عزيزي ناصر- ما المقدّس في أعلى درجات الغلوّ إن لم يكن ذلك تقديساً للعباد، لكن تركيز بعضنا السلبي –للأسف- على المقدّس الديني وحده، أفقده التوازن، وراح يجري وراء سراب (مقدّس) لاشعوري هو العلمانية ؟!

بتعبير آخر أليس مثيراً للعجب حقّاً أن يأتي من يعمل على إقناعنا اليوم بأن سبيل التحرّر من القمع وانتهاك الحقوق والحرّيات، وإخراجنا من دائرة الاستبداد والظلم والتخلّف إنما يكمن في إعلان موقف رافض للدين بمفهومه الحضاري الشامل، واستيراد (دين) بِدْعي غريب جديد على مجتمعاتنا–وإن لم يعترف بذلك أنصار العلمانية لكن العبرة بالتطبيق لها كمنهج حياة-.

يقول المفكّر المصري رفيق حبيب ( وهو من عائلة مسيحية شهيرة في مصر) :" والحق أن العلمانية ليست التعبير الدقيق فالفكرة والكلمة في القاموس الغربي هي الدنيوية في مقابل الدينية، وهي أيضاً غير المقدّس في مقابل المقدّس . ومن هذه الرؤية تم نزع الضمير عن العقل وأصبح الأخير مرجعه بيولوجياً ومادياً، لأن العقل هو أكثر جهاز بيولوجي متقدِّم ووظيفته أصبحت تحقيق الّلذة البيولوجية ، لذلك أصبحت المادة (تتقدّم) من خلال مرجعية مادية متحرّرة من كل قيد (معنوي)،غير مادي مفارق للمادة ومتجاوز للطبيعة.

ولنا أن نرى الصورة بأسلوب آخر فليس صحيحاً أن الحضارة الغربية بلا مقدّس، بل هي بلا ضمير مقدّس، فنزع القداسة عن الدِّين والضمير والأخلاق ، أو بمعنى آخر تنحية هذه التكوينات المعنوية كان – وما زال- يعني أنّ القداسة تمّ سحبها من مجال المثال المتجاوز للمادة إلى المادة نفسها، فالحاصل أنّ الّلذة أصبحت مفهوماً مقدّساً، وكذلك مجتمع الوفرة والرفاهية والاستهلاك ، وكل هذه المنظومة المادية . لذلك فالعقل الحرّ يمارس حرّيته من خلال اعترافه الضمني بقداسة الرؤية المادية ، فأصبح حرّاً من الضمير ، وأسيراً للرؤية المادية ، لذلك فإن أيّ تفكير ينزع القداسة عن المادة ، يعتبر تفكيراً ظلامياً وخارج العصر" ( رفيق حبيب، المقدّس والحرّية،ص 10- 11، 1418هـ- 1998م، الطبعة الأولى، القاهرة وبيروت: دار الشروق).

ويتابع:" بهذا المعنى نرى أن لكل حضارة مرجعية مقدّسة، لا يمكن المساس بها. وهذه المرجعية قد تكون مستمدة من الضمير والقيم والدّين، أي متجاوزة لعالم العمادة، وقد تكون ملتصقة بالمادة ونابعة منها. لهذا فروح العصر تقدّس المادة، عندما جعلت العقل مرجع نفسه، والإنسان مركز الكون، ثمّ تحولّت القداسة شيئاً فشيئاً فيما يسمّى بعد الحداثة. فأصبحت القداسة للمادة التي أصبحت مركز الكون. تلك الرؤيا السائدة لدى الحضارة الغربية، هي ما يتمّ زرعه في أوساط العرب والمسلمين، منذ قرنين من الزمان تقريباً. ومع نهاية القرن العشرين أصبحت هذه الرؤية سافرة على أمّة الوسط ، في محاولة لزرع قداسة العقل والإنسان والمادة، في مواجهة قداسة الأخلاق والقيم والدّين"( المرجع السابق، ص 11).

ويوجز رفيق حبيب رأيه في هذا بقوله:" وحتى نحرّر المسألة؛ نؤكّد ما وصلنا إليه سابقا، من أن العلمانية هي نزع القداسة عن الدّين، أي عن المقدَّس، وجعل المادي والدنيوي وغير المقدّس مقدَّساً ضمنياً. وما أردنا تأكيده أن أيّ حضارة تبدأ ببديهيات لا تقبل الجدل ومسلّمات يفترض صحتها ولا يتم التشكيك فيها، وهذه النقاط المرجعية هي المقدّس، حتى وإن كانت أفكراً مادية وغير إنسانية. وبالتالي نتصوّر أنّ المقدّس ضرورة، لأنه الغاية النهائية الكامنة في أيّ رؤية ، والتي تحدّد تمسك الرؤية واستمرارها وقدرتها على إعادة إنتاج أفعالها ... من هنا نؤكِّد ضرورة المقدّس، وعليه يجب أن نحدّد موقفنا لابين الارتكان للمقدّس من عدمه بل بين أن يكون المقدّس هو الضمير أو يكون العقل الحرّ النفعي. فالتصوّر العلماني يفرض علينا مقدّسات، تحت شعارات تنادي بتحرير العقل من قيود المقدّسات.

وبالتالي فما نواجهه اليوم هو صراع بين مقدّس وآخر، أي بين قبول الرؤية المادية كمقدّس، أو إعادة إفعال مقدساتنا، والتي تنتمي للضمير والدّين والأخلاق . فالاختيار بين تقديس المادة، وتقديس المعنى. وفي النهاية فالقداسة ضرورة والاختيار بالتالي حتمي" ( المرجع نفسه، ص 12-13).

وحاصل القول: إنّه إذا كان دين الإسلام يمنح كل من يعيش في كنف حضارته حرية فردية وجماعية قلّ نظيرها، بشهادة بعض رموز الديانة المسيحية ( راجع: القرضاوي: بيّنات الحل الإسلامي،ص 231- 247 )؛ فإن الدين الجديد (العلمانية) ليس بأكثر من قهر لأغلبية المجتمع، وإقصاء للمخالف من داخل الدائرة، وسقوط في شرك الازدواجية فجّة في المعايير، على حين يتم استعارة خرقاء لمقدّس الآخر المهيمن ونموذجه ومعاييره، كي تصبح وحدها المطلق والنهائي والقول الفصل !!

ألا ترى أن بعض العلمانيين يدّعي لعلمانيته أو اتجاهه الفكري أو الأيديولوجي (قداسة) من نوع ما قد تكون أبلغ من قداسة السماء، ولا تختلف في شيء عن قداسة غلاة المتدينين وتطرّفهم؟ وإلا ففسّر لي ظاهرة الاحتراب المسلّح بين الفئات العلمانية في أكثر من قطر، ولعلك تذكر – على سبيل المثال- أن الحركات القومية واليسارية في عالمنا العربي – على سبيل المثال- علمانية ( لا نزاع في ذلك)، وقد حدث بينها من الاقتتال تحت عناوينها (المقدّسة الخاصة)( القومية- العروبة - الوحدة- - الاشتراكية- الدفاع عن الطبقات الكادحة- العدالة الاجتماعية- الوطن- العروبة...إلخ) ضد قائمة الشرّ المطلقة ( الرجعية- الأصولية- القوى المتطرفة الإسلاموية- حركات الإسلام السياسي ...إلخ)، وفي سبيل القضاء عليها استباحت كل محرّم كتدنيس قداسة الدّين، أو انتهاك العرض والشرف والكرامة، أو التفريط بالسيادة، والتبعية لهذه القوة المهيمنة أو تلك، وهل الصراع الداخلي الشهير يبن جناحي حزب البعث في العراق وسوريا طيلة العقود الماضية، أو صراع المجموعات الماركسية المسلّحة التي كانت تحكم جنوب اليمن، وما عرف بمحرقة 13 يناير عام 1986م، إلى حدّ أن بلغت درجة التصفية على الهويّة – على سبيل المثال-، عدا الصراع الشهير بين البعثيين والشيوعيين في العراق أو سوريا أو مصر، إلا أمثلة محدودة من أمثلة عدّة، لكن كأني بآخرين ممن يشايعون مقولة (الحلّ العلماني) سيقولون: سلّمنا بأن البلاد ذات الأغلبية المسلمة المتجانسة لاتستدعي العلمانية فكيف بالبلدان ذات الإثنيات والطوائف الدينية والعرقية المختلفة الكبرى كلبنان أو العراق، أو حتى الهند أو نحوها، هل يمكن النزاع بأن العلمانية هي الدواء الناجع والحل الحتمي في مجتمعات مختلفة كهذه؟! وأجدني من منطلق العقل والشرع والواقع أنازع في ذلك جدّا، بل أرى أن ذلك إنما يؤيّد وجهة النظر الأخرى القائلة إن العلمانية في المجتمعات الإسلامية كارثة مجتمعية محقّقة، وفي غير الإسلامية لا تمثّل حلّاً كاملاً، بدليل جملة من الوقائع التي أكّدت ذلك، وسأشير إلى طرف يسير منها لاحقاً، ولكن قبل ذلك دعنا نناقش النموذج العلماني الفاقد لروحه التي يزعم أنها سرّ بقائه وتفوّقه وهي (الديمقراطية)، على حين أنه لايعلن اعترافه بخطيئة دعواه، حين يجد نقيض ذلك على الأرض، في غير ما تجربة، بل يمضي ليقدّم تبريرات (متهافتة)، تشعرك بأن العقل والأخلاق معاً غير معتبرين في مقاييس النماذج العلمانية، بل المصالح وحدها، حتى لو كانت ظالمة فاشية قاتلة للديمقراطية (المفترى عليها)، وذلك هو الانعكاس العملي للفلسفة التربوية البراجماتية في أبشع صورها، وهو ما سأناقشه –معك- في الحلقة القادمة بإذن الله- !

المصدر: صحيفة الناس

أ.د. أحمد محمّد الدَّغَشِي- أستاذ أصول التربية وفلسفتها - كلية التربية – جامعة